مقالات

إلهام محمود تكتب: إبعد … الصورة تفضل حلوة

علمتنا أزمة الجائحة التي يمر بها العالم حالياً كيف أصبحت مهمة لنا ولصحتنا الحفاظ على مسافة كافية بينك وبين الآخر .. أسميناها “بالمسافة الأمنة” … بدأناها بشيء من التهكم لأنها تخالف ثقافتنا وعاداتنا التي تتصف بالحميمية في الكلام والسلام … ثم اعتدنا عليها شيئاً فشيئاً حتى أصبحت عادة بعد أن أصبحت المسافة تساوي حياة ….

وعلمتني خبرتي كمدرب محترف في تنمية الموارد البشرية كيف يكون أكمل وأشمل أن تنظر للأشياء من بعد … فعندها سترى الأشياء أوضح عندما نراها مع ما يحيط بها فتصبح الصورة أشمل … وكنت أعطي مثلاً للمتدربين بأنني لو رأيت سيارة أعجبتني ونظرت لها من أعلى بناية … فسوف أرى السيارة أصغر حجماً ولكن أستطيع أن أراها وسط أشياء أخرى فأستطيع مقارنتها بغيرها …. فتنقل لك شيئاً عن كل شئ في الصورة وكيف أن مجمل الأشياء تتفاعل مع بعضها البعض …. فتعجبني وأتمنى أن أشتري مثلها بل ويصبح أحد أمنياتي الدنيوية أن أقتني مثل هذه السيارة …. ولكن من هذا البعد لا أستطيع أن أرى تفاصيلها وأدق مواصفاتها …. ولكي أراها بهذه الدقة لابد أن أقترب منها وبدلاً من رؤيتها من أعلى البناية فلابد من الاقتراب أكثر منها …. ومع كل طابق أتخذه لأسفل يقربني من السيارة فأراها أوضح وأرى أقل مما حولها ….. حتى أصل للطابق الأول فتصبح الصورة مباشرة والسيارة ملئ العين …. وتصبح المفاجأة أن السيارة بها الكثير من العيوب … بل وليست بالجمال الذي أوهمني به النظر إليها من بعد ….. واكتشفت أنها لم تكن لتستحق كل هذا الإعجاب ولا ترتقي لأن تكون حلم لي ولا حتى أن تصبح ضمن “أحلامي” ….

 وهنا فقط همهمت نفسي لنفسي بأن الصورة من البُعد أجمل …. لأنها تخفي كل العيوب ….. هكذا هي العلاقات بين البشر … لابد فيها أن نحتفظ بمسافة “أمنة” بين بعضنا الآخر حتى يظل كلانا يرى الأخر دائما دون عيوب ….. فلنبتعد قلياً لتظل الصورة أفضل … عن ثقافة المسافات أتحدث …. البعد يخلق حالة من الغموض يتبعها انبهار يجعلك دائما راضٍ عن الأشخاص ..بل ومعجب بهم وتبذل كل جهد لتحتفظ بهم …. ولتظل بنفس تلك المشاعر والإعجاب …. لا تقترب منهم أكثر …. وبالمثل أنت بالنسبة للآخرين… فبعضنا أجمل من بعيد … عليك أن تحافظ على المسافة “الأمنة” بينك وبينهم …. كي يبقى الجميل في عينيك كما هو جميلاً، وكما قرأ عن الكتابة والحروف والكلمات فالمسافة بين كل كلمة وتاليتها ضرورة، وإلا فقدنا القدرة على قراءة الجملة، فقد فقدت سياقها وتاه معناها …. وتذكرت هنا النصيحة التي لا زال يحتفظ بها عقلي من معلمي للقيادة  – أثناء إقامتي في بلاد الفرنجة … وقد كنت استأجرت سائقا يعلمني قيادة السيارة للحصول على الرخصة الدولية – وقد أخذ يعيد على مسامعي نصيحة ثابتة في كل درس ألا وهي … كي تأمني أي تصادم مع السيارة التي تسبقك عليكي بالحفاظ على مسافة “أمنة” بينك وبينها … وأعطاني مفتاح عظيم لضبط هذه المسافة ألا وهو أن أظل طوال الطريق أستطيع أن أرى العجلات الخلفية  للسيارة كاملة  …. هكذا فقط أستطيع أن أتحاشى أي اصطدام معها … وهكذا وبالمثول مني ومن خلفي ومن خلفه بهذا القانون يظل الجميع “أمن” … وأي اقتراب من أي منا يقلل من المسافة الأمنة يؤدي حتمياً لنقص فرص الأمان وزيادة فرص الاصطدام أو التصادم بيننا، لا أدري لما أتذكر هذه النصيحة حتى الآن، وربما هي فقط ولم أعد أتذكر أي من باقي نصائح معلمي للقيادة، حتى أنني لا أتذكر إن كنت حصلت على الرخصة الدولية أم لا..

نحن بشر وكل منا له عيوبه … تظل عيوبنا خفية أو محتملة كلما احتفظنا بالمسافة الآمنة بيننا وبين بعضنا الآخر …. حتي نقرر الاقتراب …. اعتقاداً أن القرب ممن نحب يزيد محبتنا لهم ويزيد سعادتنا بهم لمجرد الاقتراب منهم بالاقتراب منهم …. إلا أننا نصدم فمع كل نقص في المسافة الآمنة تزداد العيوب ظهوراً ويزداد نفورنا منها … شيئاً فشيئا حتي تنفر من وربما يقل أعجابك به … ويتلاشى حبك له،  بل ربما تكرهه… وقد تندم على قرار الاقتراب …   وهنا نكتشف أنه كان من البُعد أفضل… والصورة كانت أجمل … والحب كان أكبر …

ولذا فيجب علينا جميعاً الاحتفاظ بمسافة في علاقاتنا مع الآخرين مهما كانت شكل علاقتنا بهم …زواج.. صداقة.. أخوة.. زمالة، فالمسافة “الآمنة” تزيد أي علاقة قوة وتحتفظ لكلا الطرفين بجانب لا يعلمه الطرف الآخر فتبقى الصورة غير مكتملة ويظل كل منا يسعى ويجاهد لاستكمال صورة الآخر فتفقد العلاقة أي ملل ويظل كل منا يرى فقط جمال الآخر دون عيوبه ……

احتفظ بوهج شخصك وشخوص من حولك ولتبقى غامضاً ..نادراً … غير متاحاً طول الوقت … فاقترابك منهم واهتمامك المبالغ فيه .. ووجودك في معظم الأوقات .. يعرضك لأمر من اثنين لا ثالث لهم .. فإما أن تفقد وهجك كلما اقتربت فأصبح غير ملفت أو غير فارق … أو أن يظل وهجك بشدته حتى يعتادونه ويعتادون ضوء وجودك …بل مع الوقت يملونه … فإن ضمن الآخرين وجودك … اطمئنوا … وأمنوا جانبك … فيتضاءل بريقك وتقل قيمتك … وتتساوى بالآخرين وقد يتفوقون …

فلنبتعد قليلا ليبقى الإعجاب ويستمر الحب ……

إبعد الصورة تفضل حلوة…

 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى