د. عمر محمد الشريف يكتب: روسيا والصين والقوى العظمى
سيل من العقوبات الاقتصادية والمالية فرضتها الولايات المتحدة الأميركية ودول أوروبا على روسيا. عقوبات غير مسبوقة لشل قدراتها العسكرية، ونظامها المالي. وصف البعض العقوبات بـ”النووي الاقتصادي”.
منذ بدأت العملية العسكرية الروسية في أوكرانيا انخفض سعر الروبل الروسي حتى وصل حالياً إلى أدنى مستوياته على الإطلاق، والتي سجلها عقب الغزو مباشرة، رغم رفع البنك المركزي الروسي لأسعار الفائدة بقيمة الضعف من ٩.٥% إلى ٢٠% .
أوضاع تجبر موسكو على إعادة تنظيم جزء كبير من اقتصادها وتجارتها، والبحث عن شركاء تجارين أقوياء، قادرون على مساعدتها إذا تأزمت أوضاعها الاقتصادية، أو على الأقل تخفيف نتيجة العقوبات التي ستتحملها روسيا.
لن تجد روسيا شريك أفضل من الصين، التي ظهرت كقوة اقتصادية عظمى جديدة، وتعد حالياً ثاني أكبر اقتصاد في العالم. الإشكال ليس في توجه روسيا نحو الصين، وإنما هل ستمد الصين يد العون لها في ظل الحظر الغربي على موسكو ؟ ، وما موقف الصين من الحرب الجارية في أوكرانيا؟.
توجد أرض مشتركة بين موسكو وبكين حيث أن كلاهما يعارضان توسع الناتو بإتجاه الشرق، ويلقيان باللوم على الولايات المتحدة الأميركية. وكما ترى روسيا أن أوكرانيا أرض روسية قديمة، فإن الصين ترى أن تايوان مقاطعة منشقة سيعاد ضمها لا محالة إلى البر الصيني، وتحظى تايوان حالياً بدعم غير محدود من الولايات المتحدة الأميركية.
وبينما يرى قادة الصين ضرورة خلق حل سلمي للأزمة الأوكرانية الحالية، ودعم المفاوضات بين الدولتين، إلا أن الصين في صف روسيا بلا شك، حيث أمتنعت عن التصويت على مشروع قرار قدمته الولايات المتحدة وألبانيا بمجلس الأمن، لإدانة الغزو الروسي لأوكرانيا. وكذلك أمتنعت يوم الأربعاء الماضي عن التصويت على قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة الذي يطالب روسيا بالتوقف الفوري عن استخدام القوة ضد أوكرانيا.
كما كانت تصريحات المتحدث باسم وزارة الخارجية الصينية وانغ ون بين، داعمة لروسيا، ورافضة بشدة للعقوبات الغربية، حيث قال في مؤتمر صحفي: “الصين تعارض بشدة أي عقوبات غير قانونية أحادية الجانب، لأن العقوبات لم تكن وسيلة أساسية وفعالة لحل المشكلة، فهي لن تؤدي إلا إلى صعوبات خطيرة للاقتصاد، وتزيد من تفاقم الانقسام والمواجهة “.
وقال: “إن الصين وروسيا ستواصلان التعاون التجاري الطبيعي”.
وكذلك قال رئيس هيئة تنظيم البنوك والتأمين الصينية جو شوتشينج، في مؤتمر صحفي : “إن بكين تعارض العقوبات الغربية المفروضة على روسيا. وأن الصين لن تنضم إلى مثل هذه العقوبات، وستحافظ على التبادل الاقتصادي والتجاري والمالي الطبيعي مع جميع الأطراف المعنية. لا نوافق على العقوبات المالية، لا سيما تلك التي تم إطلاقها من جانب واحد، لأنها لا تستند إلى أساس قانوني كبير، ولن يكون لها آثار جيدة”.
وعن العلاقة بين روسيا والصين قبل غزو أوكرانيا، عمدت الدولتين إلى تعميق الروابط التجارية في السنوات الأخيرة. زار فلاديمير بوتين بكين في ٤ فبراير الماضي، واجتمع بالرئيس الصيني شي جينبينغ، وأصدراً بياناً قالا فيه إنه “لا يوجد سقف” للتعاون الاستراتيجي بين البلدين.
وأعلنا عن تصدير فحم بقيمة ٢٠ مليار دولار أمريكي إلى الصين. تصدر الصين لروسيا السلع المصنعة مثل الإلكترونيات والآلات مقابل الغذاء والطاقة. وبلغ حجم صفقات النفط والغاز بين روسيا والصين ما يصل إلى ١١٧.٥ مليار دولار أمريكي.
في عام ٢٠١٤م وبعد معاقبة روسيا لضم شبه جزيرة القرم من قبل الولايات المتحدة الأمريكية، توسعت التجارة الثنائية بين روسيا والصين بأكثر من ٥٠ في المائة. أصبحت الصين أكبر مصدر للاستيراد والتصدير لروسيا، حيث وصلت التجارة بين البلدين إلى مستوى قياسي بلغ ١٤٦.٩ مليار دولار في عام ٢٠٢١م، بزيادة سنوية قدرها ٣٦٪.
حالياً يهدد الغرب روسيا باستبعادها من نظام سويفت للمدفوعات العالمية بين البنوك. نظام “سويفت” يسمح بانتقال سلس وسريع للمال عبر الحدود. وكلمة سويفت “SWIFT ” هي اختصار لـ “جمعية الاتصالات المالية العالمية بين البنوك”.
هذا الاستبعاد سيؤثر على المؤسسات المالية الروسية الكبرى، ويمنعها من إجراء مدفوعات وتسويات عبر الحدود مع البنوك العالمية والمؤسسات المالية الأخرى. مما قد يعرض النظام المالي الروسي لخطر الشلل.
إن نفذ ذلك التهديد ستلجأ روسيا لأنظمة بديلة لتقوم بإجراء التحويلات المالية، ومن الأنظمة البديلة النظام الصيني كروس بوردر (cips) للتحويلات المالية. وهو نظام صيني أنشئ بهدف زيادة التبادل التجاري العالمي بـ “اليوان” الصيني. أسسته الصين ضمن محاولاتها للخروج من مظلة الاحتكار الأمريكية العالمية. تعمل الصين بهدوء على تطوير نظامها الذي يعتمد على العملة المحلية اليوان، وتقوم بكين بدفع أكبر نحو عولمة عملتها المحلية.
كما أعلن حاكم البنك المركزي الروسي أن روسيا لديها بديل روسي عن نظام سويفت، ويمكن للمتعاملين داخلياً وخارجيا استعماله. ويسمى النظام الروسي البديل SPFS، والذي تم إنشاؤه في العام ٢٠١٤م، على خلفية تهديدات واشنطن، بطرد موسكو من نظام سويفت المالي، بسبب أزمة شبه جزيرة القرم.
ونفذ هذا النظام أول معاملة ناجحة له في عام ٢٠١٧م، ولديه الآن أكثر من ٤٠٠ مؤسسة مالية في شبكته، وتسعى روسيا لضم حلفائها لهذا النظام.
الصين بلا شك سترحب باعتماد موسكو عليها اقتصادياً، وبإمكانهم الاتفاق مع حلفائهم على اعتماد نظام مالي خاص بهم للدفع بالعملات المحلية اليوان والروبل، سيكون هذا النظام منافس للنظام سويفت. كما أن التعامل بالعملات المحلية سيؤثر بالسلب على الدولار الأمريكي.
يرى خبراء اقتصاديون أن موسكو قادرة على تخطي عقوبات الغرب. الصين ستدعم روسيا بإمكانيات تجارية ومالية، وستساعدها في التهرب والالتفاف حول العقوبات المالية التي فرضت على موسكو، لكن الصين لن تنتهك العقوبات علنًا، حتى لا تخاطر بعلاقتها مع الغرب، حفاظًا على مصالحها، في ظل تهديدات أمريكية واضحة لأي دولة تقدم على مساعدة موسكو، ستعرض نفسها للعقوبات، حتى لو كانت الصين.
لن يكون من مصلحة الصين التضحية بعلاقاتها مع الغرب. ستحاول الولايات المتحدة الأمريكية إحداث خلل في الوفاق الحالي بين بكين وموسكو، والذي يمثل للولايات المتحدة تحديًا جيوسياسيًا. عزل روسيا عن الصين انتصارًا كبيراً للإدارة الأمريكية إذا نجحت في تحقيقه، فهل تنجح في ذلك ؟!.