قلم الأدباء

قصة.. مملكة الجنيات

قلم الأديبة / رولا حسينات

-هرهر…ععععع…

لم يملك سليم الفتى ذي التسع سنوات غيرها، يحفظها عن ظهر قلب مذ كان في بطن أمه سعدية بنت الراعي وهدان، التي تزوجت من الصبي اليتيم الذي ربي في بيت الشعر المنصوب على السفح…والذي تُعمِلُ الريح صفقاً فيه يميناص ويساراً كلما اشتد زفيرها، ويطرقها الهجير في قرِّ الصيف الحارق… مجيئه مع أمه وأبيه سلامة، وأخته شفيقة مع ثلاثة شياه وجدي…عندما فروا من الفيضان الذي حدث في أواخر شتوية العام الماضي…

كان الليل طويلاً وبارداً حين انشقت الأرض وابتلعت الكثير من الصخور والحجارة، وكثيراً من الأغنام والشياه انزلقت مع الفيضان؛ الذي جعل الكثيرين يُسبحون بعيداً حيث لم تعد سوى القليل من أرديتهم البالية، والتي علقت بالحواجز الحجرية أو الزوايا الحادة للوادي، الذي يدور حول الجبل كأفعى طويلة تتسع بطنها عند المنتصف ثم ما تلبث أن تضيق حتى تصل إلى عنق الوادي المحشور بين الجبلين، فتضيق حتى تصبح دقيقةً على المار، والراعي الذي يأخذ في الربيع الشياه… عليه أن يحذر من أن يعلق هناك، وكثيراً ما كانوا يسمعون ضحكات الرعيان الآخرين على كلِّ راعٍ صغير يرسلونه إلى ذلك الشريط الضيق كلسان الأفعى حتى يجتاز اختبار الرعيان…

 في هذا الشريط يرتفع الماء في الشتاء إلى أكثر من ثلاثة أمتار وربما أزيد، عندما تكون أمطار تشرين قد فتحت على مصراعيها…الكثير من الضحايا علقوا في الوادي، والكثير منهم قذفته المياه من ذلك الشق الذي أعملت فيه المياه نحتاً فأذابت تربته القاسية، وقشرت صخوره فانهار فجأة، وسمع له شهيق حينها…

 وقيل: من ترمي به المياه خارج ذلك الشق، يلقى حتفه…

 وقيل: بل تبتلعه الجن…لم يكن أحد يعرف من أين جاءت فكرة الجن على البيوت المنسوجة من شعر الماعز وصوف الشياه؟!، وقد أقيم على عدد من الأوتاد الخشبية التي تناسبت في حجمها وطولها.

 الكثير من البيوت كانت بيتاً واحدا دون ما يفصلها، ولكن القليل منها كان بشقين، حيث يُفصل البيت الواحد بنسيج آخر يرتفع إلى طول الواقف وأزيد قليلاً، حتى لا يرى أحد من الجالسين في الشقين الآخر، وكثيراً ما كان شق النساء لا يُسمع فيه إلا همس، ولا يستطيع الصبي الصغير أن  يسمع شيئاً إلا أن يطيع الأمر بالهمس والإنصات، وخاصة عندما يدنو الليل بستاره الثقيل فلا تبين اليد ولا تبصر العيون الدائرية الصغيرة بمحجريها الكثير، فلا يخرج الصبيان ولا تُمد الرؤوس حين تقفل أبواب بيت الشعر، وتثبت بحجارة، ويكون كلُّ شيء قد أُعدَّ قبل الغروب من حلب للشياه، وإيواء لها وإطعام الكلاب، التي تقوم بالحراسة، ويبقى نباحها عالقاً بآذانهم، ويسبب لهم النعاس في كثير من الأحيان… إلا في تلك الليلة الباردة التي كان وابلها يهز الصفيح المثبت كسياج لبيتهم الذي أستند حينها لجدار صخري، وكأنه نبت لبيتهم دون البيوت المرصوصة فوق الأرض المنبسطة…

 كان صوت الكلاب حينها بارداً حزيناً، وهو يزف إليهم وقع أقدام ثقيلة تجرُّ وراءها وقع المطر المثقل إلى حيث يجثم بيت الشعر، الذي ترصه الصفائح المعدنية فلا تدخله الريح، أو تذوب حصاه من المطر…

 الخوف الذي سرى في أجسادهم الرقيقة التي لم تحمل شحماً وتستطيع أن تسابق الريح، وهي تتخطى الأحجار الكبيرة، والقديمة المتراصة في تلك البقعة البعيدة عند سفح الجبل، حيث ترعى شياههم الكثير من العشب، فيغزر لبنها.

عشب تلك المنطقة المحصورة بين التل الأبيض والتل الأسود باختلافٍ كبير بين الصخور الدميمة التي تغطيهما، تراصت تلك الأحجار الكبيرة والصغيرة، التي نقش عليها الكثير من الحروف والرسومات…فكان الرعيان يتسابقون لاختيار الرسم الأفضل، ودون أن يعرفوا فك الحروف… فلم يعرف أحدهم القراءة والكتابة، ولكنهم استطاعوا أن يفهموا الصور المنقوشة فوق الحجارة، والتي جعلت لأقواهم النقوش الأجمل لفتيات عاريات؛ يستحممن عند بركة ماء وقد تسابقن في ستر أجسادهن حين هاجمهن أسد كبير…

لم يعرف الرعيان في هذه الأرض الممتدة فوقها جبال وتلال، والكثير من النتوءات أثراً لأسد ضخم، فأوقع لديهم الحيرة في أن تكون هذه الأرض العارية التي تغطيها الأعشاب المختلفة في طولها، وبخاصة تلك التي يقال لها: عشبه الراعي، العريضة الأوراق ذات القنديل الأبيض وتنتهي ببصلة بيضاء كبيرة ملتصقة بالأرض القاسية، فلا يعرف أحد سبب تسميتها، كما لا يعرفون سبب التصاقها بالأرض…

الكثير من الأمور حولهم لا يعرفونها ولا يستطيعون سؤال أحد عنها …إذ أن سؤالهم سيرجع بألف سؤال، كلها تطلق إشارات استفهام فيما بينها… الكثير من الحصى المرصوصة في أذانهم تتساقط أحياناً، وترصُّ أخرى بينها في كثير من الأحيان…فلا يرجعون صدى لأيِّ شيء. فكل معرفتهم حول الشياه ومواعيد ولادتها، وكيفية فصل رضيعها من الحملان الصغيرة عنها حتى يمتلأ ضرعها، ليبيعوا لبنها، وكثيراً ما تشد حوله قماشة، فلا يستطيع الحمل الرضاعة ولا تستطيع الأم فعل شيء سوى الثغاء، والدوران حول نفسها أو الركض في المرج، ورفس الهواء لتعود آسفة حزينة، تشمُ رضيعها، وتبقي على ثغاءها الحزين…

 الحزن والخوف هي تلك المشاعر التي أحاطت بهم، وهم يستقبلون تلك العائلة الهاربة من الموت إلى فم الموت، فمن يعرف متى تقبضهم يده أو يبتلعهم فم الوادي ويسجنون عند الجن؟! وبقيت عيناها الدائريتان تتفحصان ذلك الصبي الصغير الذي بان تحت مشعل الزيت الصغير فرأته جميلاً بهياً ومختلفاً، وهو غارق حتى أخمص قدميه بالمطر والطين…بقيت لغة التواصل بينهما…عينان تقبضان على حبٍّ صغير أخرق ثم ما تلبث أن تطلقه فوق السهول، ولكنّ الصدى يعيده ثانية، فيحيكان حوله من صوف أغنامهما الكثير من الأسيجة، ولكن تلك الميتة الشنيعة لأمّه كانت السبب وراء تقربها منه، إن لم يكن من دافع الحب؛ فهو من دافع الشفقة عليه، فصورة تلك المرأة التي حملتها الريح إلى قاع الجرف… بقيت قصة تحكى بين الرعيان، والقبائل المجاورة، و الجن هي التي سرقت روحها… وهو السبب وراء فمها المفتوح وعينيها الجاحظتين، والدم الأزرق الذي وجد أسفل رأسها، والذي أوقع الخوف في نفس أخته الصغيرة التي هامت على وجهها وهي تصيح دون أن يستطيع أحد اللحاق بها ثم اختفت، وكأن الأرض انشقت وابتلعتها…

مشهد الرعيان الذين تناوبوا على طمرها بالتراب، والكثير من الرؤوس تطلُّ، وتغيب من فوق الجرف…لا يمكن نسيانه…

 الصمت الرهيب الذي لا يمكن لأحد أن ينساه، استطاعت أن تنسيه إياه رغم تلك الكوابيس التي تغرفها من نومها العميق، لتبقى فاتحةً عينيها طيلة الليل، كما هو النهار، السن المبكر الذي تزوجت به كان كفيلاً بأن تنضج مبكراً على أمور البيت، رغم حداثة زواجها الذي كان له عدد من السنين في رعاية الشياه، ما كان يقلقها هو إسهامه إلى البعيد، وكأنه ينتظر أحداً ما أو يلتقط من حجارة الطرقات شيئاً لم تعرفه هي، وربما هو…!

 إذ ما الذي يمكن أن يفرقه عنها أو عن أيٍّ من الرعيان الذين ولدوا وانتهوا بين رؤوس الشياه وسفوح الجبال؟!…لم تكن لتقبض من تفكيرها وهلعها سوى بثوراً تمادت في الهيجان، لقد ابتعد كثيراً عنها، ذلك الحبُّ الصغير الذي زرعه في بطنها في تكويرة تكبر شيئاً فشيئاً، وتقبض إليها رحمها بخيط رفيع من الألم، ثم تطلقه فيسيّل سائلاً لزجاً حاراً بين فخذيها، رغم كلِّ شيء أدركت أنها ستبقى وحيدة وهي تراقبه، يهيم على وجهه… يقلب الصخور المنقوش فوقها صور للكثيرين والكثيرات، وكتابات يمرر بأصابعه فوقها، وكأنه وحده دون الكثيرين ممن مروا بالمكان قادر على أن يفهمها، ويفك طلاسمها…

 أيكون قد خاوى الجن أو تلبسه؟ ربما… ولم لا؟

 أمّه التي سقطت من الجرف ودمها الأزرق، والتي أعجزت الكثيرين ليطمروها بالتراب أياماً متواصلة، وأخته التي انشقت الأرض وابتلعتها…كانت حكاية لا يمكن لها أن تنسى، وربما هو سيلقى المصير نفسه، ابتعاده، وهذيانه، تأملاته، وتركه الشياه لترعاها عصاً من غير أن تراها أو يراها أحد، تجتمع حيناً، وتمضي حيناً، ثم تعود إليه وكأنها تقرأ ما يشغله، وكأنها تفهمه.

 فلم عجزت هي عن فهمه؟!

 وجع المخاض أطلق له العنان ليغيب عن ناظريها، وانزلاق الرأس وصرخاتها التي مضت بسكينها ثلماً في سكون السهل الممتد حتى مشرق الشمس، ونسوة السهل والوادي يضعن الخرق لوقف نزفها، ولم تفارقها أوجاع قيعان فيها قد تمزقت الحياة والموت…

 لم يكونا بيد أحد ولم تكن سوى النقوش من تشهد على المارين والماكثين، وبقيت تنتظر غسل وليدها لتلقمه ثديها المنتفخ قليلاً رغم ما فيها من هزال، وهي تدعك بيدها تلك الخرقة بين فخديها، وتطلق الأخرى لتضم بها الصغير، والنزف لم يفارقها، أربعين يوماً لم يتوقف، ولم يعد ذلك الراعي الشارد، حتى جاءتها أخباره مع الرعيان الذين ملوا نفس الصور من العشب العريض الأوراق، والوردة البيضاء، فانسحبوا تحت الظلال إلى ما وراء الجبل، كانت جثته هناك فاغرة العينين والفم، وإبهامه يشير إلى أعلى وكأنه كان في نزال أخير، انتهى بأن يقبضه مُنازلِه إليه وهو لا يلوي  على شيء…

وتغيب بين الغيمة والغيمة، والركام الأسود يقلب لها تواريخ حياتها مع صغير قدر له أن يتمَّ حياته يتيماً، بلا حلم سوى أن يكون راعياً، ربما كتب لها أن تصادر منه الحلم كي لا يغيب وراء الجبل، ويبقي منه على جسد متصلب بدماء زرقاء، ودمها الأحمر لم يتوقف وهو ينزعها من حياتها الهزيلة بمشاهدها البائسة، وتقلبات الليل والنهار، كل ما فيهما بارد وهي تخور بكل ما فيها، حين وقف الصغير على قدميه كانت قد نزفت آخر قطرة من دمائها.

 لم يعرف أهل السهل والوادي أو أيٍّ من الذين يسمعون قصة المرأة التي غابت ساقطة من الجرف بدمائها الزرقاء، وذلك الذي غاب وراء الجبل بسبابته المتصلبة ودمه الأزرق، وتلك الصغيرة التي ابتلعتها الأرض، وتلك المرأة التي ظلت تنزف أربعاً أو خمساً من السنين، دون أن تجدي نفعا تلك الخرق البالية، وبقي الصغير يمرر أصابعه فوق الهواء، وكأنه يمررها فوق جسد جنية لم يرها أحد سواه. 

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى