قلم الأدباء

قصة قصيرة ..”المطر الأسود”

قلم الأديبة / رولا حسينات

دارت به الدنيا فسقط في سريره، وكأنه استنشق الموت للحظات، لم يعد يفرق بين الحلم والواقع فكلاهما تعاهد على عدم البوح إليه بسره، أنفاسه المحشورة داخل ذلك الأنبوب الذي يصل بين فمه الذي يسكنه الجفاف، والقشور الرقيقة التي تنفصل بدقةٍ متتالية طبقةً وراء أخرى، واللون الأبيض يمدُّ ظله بسكينة في كهف صغير، قد تجمعت على سقفه بقع ذات رؤوس بيضاء كتلك التي تتجمع على صفحة وجهه، مشكلةً دائرةً كاملةً على وجنتيه المستلقيتان على صفحة وجه داكن، قد تناثرت عليه شعرات مبعثرة، وقد تهدل تجويف أسفل العينين بهالة سوداء تقرئان ما فيهما من خوف، استجمع مجاهداً نفسه ليسرق شهيقاً يجدد أمله في البقاء، أنفاسه المحشورة في زجاجة لن تستطيع المضي في تابوت واقع متجانس مع الحلم، ذاته الحلم الذي يفيق عليه ليالٍ وراء ليال، دون أن يتمكن من الخروج منه، التقاطه هذه الأنفاس وحبسها في زجاجة ليفوز ببضع لحظات أخرى يقارع فيها طبول الحياة، وضع رأسه بين يديه، وهو يسحب بأصابعه شعيرات رأسه التي تقاطرت عرقاً أسود، ظل واجماً وهو يتلقف أول صور ارتباطه بالحلم، بذلك النسيج الذي يسكنه في قاع المحيط دون أن يتمكن من نسله، والتعلق بخيط رفيع منه، قلبه الواجف الذي تقلص، وتجمد الدم في كل الشرايين الممتدة إليه، والتي جعلت لون جسده يميل للزرقة منها إلى أيِّ لونٍ آخر، لم يستطع أن يرجع إليه، طرفه وقد تشعب اللون الأحمر في عينيه، والذي يضفي ألماً إضافياً على فاتورة بقاءه الباهظة الثمن.

 جحوظ عينيه المستلقيتان في سائلٍ أصفر ميت، لم تجعله يرى غير المطر الأسود، وهو يتساقط من جبينه المتصفد عرقاً، وقد انحشر مع تلك الدماء السوداء التي لم يعد يعرف من قتلت؟

 من امتصت دماءه؟

 الغثيان الذي جعله يلفظ قيئاً من أحشاءه الملاصقة لجدار بطنه الرقيق، لجسد واهن، وعظام صدر بارزة، وبقي القيء يتدفق من جوفه ليحيله كائناً آخر أقل صبراً على جبروت واقعه الذي لا يدرك منه شيئاً…

 السواد الذي يملأ ملاءة سريره التي يفترض أن تكون بيضاء، والصديد الأصفر الموشح بالسواد  يضفي لوناً جديداً لكنه أكثر قبحاً مما مضى، كلُّ ما فيه ينتفض، جسده بكل قطعة فيه موصولة مع مفصل صغيرٍ أو كبير،  يئن من ألم ماءه اللزج، الذي ينسكب من ملابسه الملتصقة بجسده …

كم مرة بال على نفسه؟

 رائحته…

لم يعد يفرق بينها وبين تغوطه…

مثانته المحشورة بالبول على الدوام يخشى من النظر إلى ما يفرغه منها…

لا يدري كم تكرر وجعه منها، وهو يبصق ويتقيأ، يفعل أيَّ شيء من أجل أن يشعر ببعض الراحة، وإن كانت ببول يميل للون الأسود…

كم مرةً عانى من ذلك…؟!!

لن يطيل التفكير فكل ما لديه واقع متكرر يفرض نفسه بغلاظةٍ عليه كل ليلة؟؟!!

 معاناته الطويلة لا تعني سوى أنه مريض.

ولكن أيُّ مرض هذا الذي يخشى أن يبوح به لأحد؟

 حبات الدواء المستديرة، والطولية الشكل، الصفراء والحمراء والبيضاء تبعثرت إلى جانبه بتلك العلب المختلفة الأحجام…

لن يستطيع الفرار من كلِّ شيء… ومن أيِّ شيء…

حتى لو كان ذلك بشق الأنفس… ففراره يعني أن يعلق في الحلم… وأيُّ حلم، إنَّه ذاته ، الذي يراوده عن نفسه ليلاً ونهاراً…

 كم حبة من الدواء عليه أن يأخذ حتى يبقى مستيقظاً وإن استحال بجسده كائناً أخر؟؟

 ولكن أيَّ نوع من الكائنات ذاك الذي يستطيع ببساطة أن يمدّ شبحه على جسده بكلِّ هذه القوة وينتصر؟.

وإن فكر بالهرب فلن يستطيع، وإن فعل فإلى أين..؟

 وهل سيكون فراره ورقةً رابحةً…؟!

لن يكون بمقدوره الهرب، مهما فعل، وهو لا يكاد يفرق بين الواقع والحلم، بين الحقيقة والخيال بين أصابع الاتهام له بالخيانة، وبين الجريمة الكاملة التي عليها بصماته، واللحم الإنسي الميت يزكم أنفه بعفونته التي تفوح من تحت أظافره التي يميل لونها إلى اللون القرمزي…

 المروحة الكلاسيكية التي تدور في سقف الحجرة السكنية اللون، ذات الأجنحة الثلاثية ذات القمع الذهبي المتصل بسقف قد تناثرت حوله فراشات ميتة، وأجنحة ملتصقة، وبقع دماء صغيرة متناثرة، بالخط الفاصل بين تشغيلها، وبين زيادة سرعتها، هناك فترة من الضجيج الذي يهيّج نفسه، ويجعله يفيق من كابوسه، وربما كوابيسه، تبعث في نفسه علامة واضحة بارتباطه مع الواقع الضيق الذي لا يبتعد عن مضيق علقت فيه سفينته، الشفرات الثلاث التي تدور في حلقة بيضاء تجعله يدور فيها، ويرجع قيئه مرة بعد مرة، وفي شق الضوء الأول  المنسل من وراء ستارة داكنة ذات طيات كثيرة، تنتهي بتطريز ذهبي في نصفها الأسفل، وقطعة عريضة منها بحجم الكف قد طويت بعناية لتداري تمزيقا عنيفا فيها،  تسرب اللون الأبيض بذبول، وعين الليل تنوس ضريرة في حجرته، التي تربع السرير فيها مقربة الستارة، التي أخذت تنسحب بسكون ساحبة معها كل ما كان في ليله، لتتبتل في نسكها طيلة ساعات النهار…

 تفل إلى ما تبقى من بياض في سريره، الذي جعل كساحة للقتال.

 انسحب يجر جسده الخامل إلى دورة المياه، في الكيس  البلاستيكي الأسود، ألقى بملابسه كما يفعل كل صباح، وانزلق إلى حوض الاستحمام، أدار مقبض الماء ليملأه وهو مسترخ فيه..

 شيء ما جعله يشتم رائحة المعدن كما في السرير، فتح عينيه ليوقظ جسده بحفنة ماء تغسل وجهه، لحيته التي بسطت هيمنتها على صفحة وجهه السمراء بترتيب.

 التصقت عيناه بالماء الأسود المتقاطر مع كل حفنة من الماء، اتسعت دائرة نظره ليجد نفسه في حوض مليء ببرادة الحديد ينزف من كلِّ مكان…

 جفل…

 ظنَّ نفسه ما زال في الحلم قرص يده… وجهه…

 صرخ…وي كأنه ينتهي إلى ما كان في حلمه…!

 لكن الواقع أشد مرارة إن اختلطت معه أحداث المنام…

 يكفيه أنَّه لا يستطيع أن يقفل عينه في النهار، وهو يرى ذات الشيء كلما أرتد إليه طرفه.

 بمنشفته أخذ يمسح بقوة كلَّ جسده، لا يترك أثراً لشيء لعله يذوب، ألقى بها إلى الكيس الأسود فتح البالوعة ليمضي السائل الأسود إلى حيث تعتم الرؤيا كلياً، أدار المقبض ثانيةً ليشطف ما كان..

 عادت الصورة أكثر إشراقاً.

تمعن بوجهه في المرآة…

– لقد بدوت أكبر عمراً، الخطوط العميقة بدأت تغزو وجهك  أيمن… والهالة السوداء أصبحت ملاصقة التعريف عن نفسك، الآم كثيرة تعانيها في كل مكان من جسدك، ذكرى محشورة في قنينة مركونة لإحدى زوايا نفسك التي نهبت… نسيت أم أنك تتناسى..؟؟.

 خرج من الحمام وهمّ بارتداء ملابسه الرسمية…

والصوت يرجع إليه صداه…

– كلها لك برفسور أيمن…يهز رأسه محاولاً الإنكار… تأملها وهو يتأوه، أخذ يناظر نفسه أمام المرآة …

غشاوة عينيه خيلت له خيالا ما يخرج ويدخل إلى جسده، نفض الفكرة من رأسه…

أيُّ جنون هو فيه؟!

 تمتم: ربما نسيت .

أغلق باب بيته ذي الحجارة البنية، المرصوفة بدقة متناهية من الحجر الأملس، الذي تغشى بعض أجزاءه لفحة معتمة من اللون الأخضر لطحالب نمت، وتمردت على الطبيعة البشرية. الظل الوارف من شجرة الخروب يقرع باب بيته، ويصل إلى غرف الطابق العلوي، باسطةً أوراقها على الرف العلوي المحاذي للقطع الرخامية التي تحمل فوقها أصصاً فخارية لنبات الصبار ذات الشكل العامودي الممتلئ، وتمتد عليها الكثير من الأشواك البيضاء، نوع صحراوي جاء به الدكتور هنري قبل زمن بعيد من الصحراء الأمريكية، ولم يراوح مكانه بعد، وكأنما اعتاد نمط الحياة، وبقي صامتاً دون أن ينمو…

 وقف وهو يمد ناظريه إلى تلك النهاية التي بالكاد يستطيع تتبعها، وهو يتأمل هذا الطول الفارع لها، والخيط الرفيع من الشمس الباردة ينسل ضئيلاً من بين أوراقها الرفيعة كمطر تشريني، والبريق يتناثر فيما بينها، السنوات الطويلة لجذورها تحكي تاريخاً طويلاً، تخفي منه الكثير، قصف ورقتين وضعهما في جيب سترته الداخلي، وسار مبتعداً، ورائحة الخروب تضفي عبيرها على رائحة المعدن.

مجرد النظر إلى جذوعها الملتفة كذراعي حسناء مكتنزة الذراعين، يجعله يطيل التفكير بها، وفي سرِّ بقائها…

 لِمَ لم تبارح مكانها منذ عقود، وكأنَّها حارسه الشخصي، والحفرة أسفلها كما هي تزيد ولا تنقص قيد بوصة كلَّ يوم، لقد ملَّ دفنها كما ملَّها الدكتور هنري من قبل.

 ما الذي يؤرقه وجره إليها، وكأن شيئاً ما فيه يحنُّ إليها؟…

عاش طويلاً بين جنبات البيت الكبير الدافئة حتى بردت، وأصبح الصقيع يهدد بانقصامها والكلس الملحي ترك لمعانه وكتلاً زغبيةً من الملح الأبيض التي تكسو الجدران، ورائحة الغربة والوحدة تفوح مع فنجان قهوته الصباحي، ومع هزالة تفكيره بوجوده هنا…وهي بعيدة عنه.

 كانت تعيش هنا، خيالها الذي تنطق به الجدران، وقع خطواتها، تنورتها القصيرة، ساقاها الرفيعتان، جسدها الغض، مواربتها لبابها، والموسيقى الحالمة لسيمفونية مونمار…

كان كلُّ شيء قدريٌّ بينهما، طريق الحب، وينابيع متفجرة من قلبيهما، كلُّ الدفاتر التي لمسها فوق أصابعها التي تدوّر خواتم أنيقة لامعة فيهن، ورقصتهما المتلاصقة، دقات قلبه، وصمتها، دفء يغمره، لكنه اليوم خالي الوفاض مذ قررت الرحيل، وقبل أن تتخذ هيلين أن تفارقه، أن تفارقه إلى الأبد، وتسكن في مكان ما لا يعرف لها طريقاً، لم كان هذا القرار ؟

لِم لم تعش معه أبد العمر كأيِّ زوجين ينجبان الأطفال، وبذور الحب يشربان منقوعها؟

التاريخ الجديد واقع لا مفر منه، يراها فقط ساعات العمل ثم تمضي، وتصميمها أنّها أذكى منه، وتشكك في قدرته على اقتفاء أثرها، ولم يقدم على فعل ذلك إن لم تكن لديها رغبة في البقاء معه؟

– لا يمكنك أن تقتفي أثري، لقد تغيرت… لم أعد كما كنت بين يديك…

-ما الذي عنته يا ترى؟؟

-هو لا يستطيع حتى التفكير بامرأة كما غيره من الرجال، حبها يقتله ؟؟

-نعم، لكنه حب أعمى لن يرى النور أبدا، فلم عساه يدمرها ؟

لا أحد يعلم بعجزه، بعدم قدرته على الاقتراب من النساء، منذ أمد ليس بالبعيد، لكنه كفيل بأن يمحو رغبته التي كانت عالقة بين الظن والحقيقة في أن يلتقيا كما يمكن لأيّ بشرييّن طبيعيين أن يكونا معاً تحت سقف واحد، يلمهما حلم واحد، ووسادة واحدة، ونور قنديل له وهج أزرق مختلف عن كلِّ النور في الدنيا هنا، إلى حيث يغيب فيه الهذيان، إلى أيِّ زمن كان…فهو مجرد عابر على هامش الطريق؟!

تنهد ومضى ليقود سيارته ذات الدفع الرباعي التي خلفتها له بقايا ذكرياته مع الدكتور هنري، الكثير من العطور يضعها لتختلط و رائحة المعدن…

-سحقاً، ما الذي عليّ فعله كي أنسى …أنسى كل شيءٍ وحسب؟!

 لا تفارقه المرآة وهو يناظر كل زواياه، عقدة اللون الأسود لا تكاد  تفارقه، ربطة العنق، القميص… المعطف …البنطلون … وكأنه كتلة من السواد…

 كله السواد، لا يدري مذ متى استحال اللون الأسود لونه المفضل؟؟!!

بلا ألوان… بلا موسيقى… بلا حب جديد…

وقد غاب قوس قزح عن مرآته، عن حياته التي لم يعرف منها الكثير من الألوان غير اللونين الأسود والسكني.

 بالفراغ كوكبه يدور مترفاً بالأحزان، هل يحقد على الزمان؟؟

 على تلك البلاد التي لفظته؟؟ وتلك الشواطئ التي احتضنته ؟؟؟ ثم ماذا ليعود إلى بلاد الموت حيث تصرف القبور بالمجان، بلا هوية أو جنائز أو شعائر دينية…

حيث يطفو على سقف بلا عمدان، بلا هوية…من سيمنح لاجئ هوية للبقاء، للارتقاء…للحياة دون فواتير.

 حيث غدت للدم جدائل من الخطايا التي لا تغتفر…

 لم عليّ قد هان كل شيء لأعيش كل هذه المآسي وأصمت راضياً…؟؟

 جبينه يرفض المرمر، و حبات العرق يمسحها بمنديله الأبيض لتستحيل إلى سواد….

 الطرقات تعج بالمارة وبالسيارات، الأصوات تتعالى والضجيج في عقله يرسل نبضاته ويقتحم خلوته، كل لحظات الذروة والازدحام، إشارات المرور تنبض باللونين الأحمر والأسود، لا يستطيع رؤية غيرهما.

 لم يشعر أن الأنظار تفترسه وأصابع الاتهام حوله ترتل حكم الإعدام؟؟

ويبقيه ذاهلاً عمّا حوله…

 ولم اختير هو دون سواه ليتعلم من الدروس كلها حتى من الصفحات البيضاء؟

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى