منوعات

«العيدية» بين الفاطميين والعثمانيين

حرص النبي، عليه الصلاة والسلام، على إرساء تقاليد الفرح والبهجة بمناسبة حلول العيد، وجاء فى العبادات ما يمكن اعتباره أصلاً وبدايةً لـ «المعايدة» المرتبطة بالإهداء والعطاء؛ ففى عيد الفطر، كانت زكاة الفطر الواجب أداؤها على كل فرد قبل دخول العيد، وهدفت لتحقيق التكافل بين أفراد المجتمع، وإدخال البهجة والسعادة إلى قلوب الفقراء والمحتاجين. وفى عيد الأضحى، كانت الأضاحى هى الوسيلة لتحقيق التكافل ومساعدة المحتاجين وإسعادهم.

خلال العهود الإسلاميّة الأولى، تطوّرت طقوس ومراسم خاصّة بالأعياد، ولكن الذروة جاءت مع بلوغ الحضارة الإسلاميّة أوجها فى القرن الرابع الهجري، وبالتحديد فى عصر الدولة الفاطمية، مع استقرار حكم الخلافة الفاطميّة فى القاهرة أواخر القرن الرابع الهجري/العاشر الميلادي.

اشتهر الفاطميون باهتمامهم عموماً بمظاهر الاحتفال وإحياء المناسبات اهتماماً كبيراً، ومن ذلك الاهتمام بطقوس البهجة والاحتفال فى شهر رمضان، وفى ذكرى المولد النبوي، وبالأعياد، وغيرها من المناسبات الدينيّة التى أصبح لها ارتباطات اجتماعية وثقافيّة، فأصبحت المناسبات الدينية فى هذا العصر مرتبطة بالاحتفالات، وأُرسيت فيه الكثير من الطقوس التى أعادت صياغة الثقافة الإسلاميّة، ولا يزال الكثير منها ممارساً ومنتشراً بين المسلمين حول العالم حتى يومنا هذا؛ بدءاً من الفانوس، إلى المسحّراتي، ووصولاً إلى العيديّة.

ونجد عند مؤرخى العصر الفاطمي، كالوزير عزّ الملك المسبحي، وتقيّ الدين المقريزي، تفصيلاً لطقوس ومظاهر احتفال الخلفاء الفاطميين بالأعياد، ومن تلك الطقوس، كانت «العيديّة»، التى ظهرت آنذاك لأوّل مرة كهبة مستقلة عن سائر العبادات. وكان ذلك منذ عهد الخليفة «المعزّ لدين الله الفاطميّ»، الذى أراد أن يستميل أفئدة المصريين فى مبتدئ حكم دولته لبلادهم؛ فكان يأمر بتوزيع الحلوى وإقامة الموائد، وتوزيع النقود، والهدايا، والكسوة، مع حلول كلّ عيد، على رجال الدولة وعامة الرعيّة، كما كان يهدى بنفسه دراهم فضيّة مخصصة للفقهاء والقرّاء والمؤذنين، مع انتهاء ختمة القرآن الكريم ليلة العيد.

وكان طقس توزيع النقود يعرف باسم «التوسعة»، وهو أول شكل ظهرت فيه «العيديّة» كمبلغ مالى يتم توزيعه ووهبه بمناسبة حلول العيد، فكان الخليفة يشرف من قصره صبيحة يوم العيد، وينثر الدراهم والدنانير الذهبيّة على من أتى من عامة الناس للمعايدة.

أما الكسوة، فقد كانت توزع على الخاصّة والعامة، وكانت تصنع قبل شهر ونصف الشهر لتكون جاهزة ليلة العيد، وبلغت النفقات المخصصة لغاية صناعة الكسوة فى القرن السادس الهجريّ مبلغاً مقداره عشرون ألف دينار ذهبيّ. وإلى جانب المال والكسوة، كانت المعايدات تشمل صنع الكعك والحلوى وتوزيع كميات كبيرة منها فى الطرقات. كُلّ ذلك رسّخ وبلور مناسبة العيد باعتبارها مناسبة عامّة مقترنة بتقاليد الفرح والبهجة.

وتراجعت طقوس الاحتفال جزئياً فى العهد الأيوبيّ، خاصة مع الانشغال بالحروب الصليبيّة، وتراجعت رعاية الدولة لها، ومع دخول عصر المماليك، واستقرار ملكهم ببلاد مصر والشام، عادت الطقوس الاحتفاليّة للازدهار من جديد.

بينما اختلف شكل العيديّة مجدداً فى العصر العثماني، وكان التحوّل الأهم أنّها لم تعد مبلغاً تتولّى صرفه الدولة، وإنما تحوّلت إلى ثقافة وعادة شعبيّة يقوم الناس بأدائها فيما بينهم، كنوع من التعبير عن البهجة، وسعياً لتحقيق التكافل والمعونة فيما بينهم. وكانت هذه العادة تنحسر فى الأرياف والبوادى بسبب صعوبة ظروف المعيشة، وارتبطت أكثر بطقوس العيد عند أهل المدن والحواضر خاصّة. ولم تكن العيديّة مرتبطة آنذاك بتوزيع مبالغ ماليّة حصراً، وإنما ارتبطت بمختلف أشكال الهدايا، من الطعام، والملابس، وغيرها.

ومع نهايات العصر العثمانى ودخول الحقبة المعاصرة، استقر شكل «العيديّة» كما نعرفها اليوم، وعرفت بهذا الاسم المشتق من اسم المناسبة. وطرأ عليها تحوّلات جديدة، فأصبح من يقوم بها بالأساس هو ربّ الأسرة والأبناء الأكبر سناً من الأشخاص العاملين أصحاب الدخل، وأصبح المستقبل الأول لها هم الأطفال، ثم تأتى الزوجة والبنات الأكبر سناً. وبالرغم من شمول العيديّة أشكالاً مختلفة من الهدايا والألعاب والحلوى والملابس، إلّا أنّها أصبحت تطلق تحديداً على المبلغ النقديّ.

أصبحت العيديّة بالنسبة للأطفال بمثابة كنز ثمين؛ يحتفظون بها، ويحصونها، ويتباهون بها أمام أقرانهم، وهى بمثابة أول شكل لمبلغ مالى معتبر يتعاملون معه، يمتلكونه فى مقتبل حياتهم. وإذا كانت بهجة العيد تأتى بالأساس من بهجة وسرور وفرحة الأطفال، فإنّ بهجة الأطفال بالعيد باتت مقترنة بالضرورة بالحصول على العيديّة.

وعلى الرغم من صمود وبقاء هذه العادة شائعةً إلى يومنا، إلّا أنّه مع تراجع الأوضاع الاقتصاديّة فى العديد من البلدان ظهرت بوادر لتراجعها وتحويلها إلى أشكال عينيّة غير نقديّة تكون أقلّ كلفة، فى حين لا تزال الغالبية مستمسكة بها كما هي؛ باعتبارها أصبحت ذات قيمة رمزيّة ومعنوية مرتبطة بذاكرتنا وصورتنا عن العيد وأجوائه، لا يمكن تخيّل العيد من دونها.

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى