مفتي الجمهورية: الشريعة الإسلامية أسست للوعي بمفهومه الشامل
قال فضيلة الدكتور شوقي علام مفتي الجمهورية ورئيس الأمانة العامة لدور وهيئات الإفتاء في العالم إن قضية التفكير البيئي إنما تنطلق بداية من الوعي بقضايا البيئة.
جاء ذلك خلال كلمته بالمنتدى الإسلامي العالمي السابع عشر حول الوعظ البيئي المنعقد في موسكو عبر تطبيق “زووم”، الذي نظمته الإدارة الدينية لمسلمي روسيا الاتحادية تحت عنوان “من الوعظ البيئي إلى التفكير البيئي: البحث عن الطريقة المثلى للتحدث”، في إطار فعاليات الاحتفال باليوم العالمي للإفتاء، بمشاركة الشيخ راوي عين الدين رئيس مجلس شورى المفتين بروسيا الاتحادية، ونخبة من العلماء ورجال الدين.
وأضاف مفتي الجمهورية أن: “الوعي في حقيقته يدور حول الإدراك الدقيق والحقيقي; إدراك الذات، وإدراك المتغيرات التي تحيط بالإنسان، والوعي بهذا المفهوم صفة إسلامية أصيلة وعامة، ذلك أن الشريعة الإسلامية قد أسست للوعي بمفهومه الشامل، فبينت حقيقة الذات البشرية، والكون المحيط، وعلاقة الإنسان بذلك الكون، ولا شك أن الوعي البيئي كان أحد محاور ذلك الوعي الشامل الذي كرس الإسلام له”. وأوضح أن التناول الإسلامي لقضايا البيئة لم يقتصر على مجرد الوعظ والخطابة; بل تشكل في إطار الشريعة الإسلامية نظرية رائدة تجاه الحفاظ على البيئة ومكتسبات الإنسان من ذلك الكون المسخر له; بل انطلقت الشريعة في اتجاه مواز لذلك الاتجاه في سياق التفكير البيئي، وهو اتجاه التنمية المستدامة لتلك البيئة ومواردها، وقد بني ذلك على ركائز عدة من شأنها تنمية الإدراك لدى الإنسان بفهم وظيفته وذاته وبيئته. ونوه مفتي الجمهورية إلى أنه من هذه الركائز أن الشريعة المباركة قد أصلت لمبدأ مسئولية الإنسان; فقال سبحانه وتعالى: {وإذ قال ربك للملائكة إني جاعل في الأرض خليفة}، فمثلت خلافة الإنسان لله في الأرض ركن قضية التفكير البيئي في الفكر الإسلامي; حيث وضعت الإنسان أمام مسئوليته تجاه البيئة والكون; فالإنسان هو المستفيد الأول من موارد البيئة; فهو مسئول عن حل ما يطرأ من مشكلات في سبيل أن تتعاظم الفوائد فيتقاسم الخلق هذه العطايا على قدر سواء.
وأشار مفتي الجمهورية إلى أن نظرة الإسلام إلى البيئة في إطار التفكير البيئي جاءت مليئة بقيم الحفاظ عليها وتنميتها; فقد أسس الإسلام لتلك القيم وربطها ربطا مباشرا بالمنظومة التشريعية; فجعل إماطة الأذى عن الطريق صدقة وجعل إنقاذ حيوان سببا مباشرا لدخول الجنة مهما ثقلت الذنوب; فقال صلى الله عليه وسلم .إن امرأة بغيا رأت كلبا في يوم حار يطيف ببئر قد أخرج لسانه من العطش فأخذت له ماء فشرب فغفر لها.
وأكد مفتي الجمهورية أن الشريعة حثت على تنمية موارد تلك البيئة لضمان استمرارها وتحقيق الاستفادة منها فقال صلى الله عليه وسلم: .ما من مسلم يغرس غرسا أو يزرع زرعا فيأكل منه طير أو إنسان أو بهيمة إلا كان له به صدقة، وحث رسول الله صلى الله عليه وسلم الخلق على استصلاح الصحراء وإعمارها فيما وضعه من أحكام إحياء الموات; بما يتسق مع ما تنظمه الدولة في تشريعات وقوانين في هذا الخصوص، فقال عليه السلام: .من أحيا أرضا ميتة فهي له.
ومن هنا كان لا بد أن يأخذ التفكير البيئي موقعه المناسب كإحدى الآليات التي تتبناها المؤسسات الدينية المختلفة تجاوزا لمجرد الخطاب الوعظي. وتابع المفتي: “إذا كان التأثير الإيجابي للخطاب بوجه عام، والخطاب الديني خصوصا; سواء في بناء الوعي أو ترسيخ الثقافية القيمية أمرl لا شك فيه; فإن هذا الخطاب ولا شك سيكون أكثر تأثيرا إن تزامن معه اعتبار التفكير البيئي أحد أسس التوجيهات الدينية بوجه عام; وذلك في مختلف المجالات التي تتعلق بها الأديان; سواء الدعوية أو التشريعية أو المرتبطة بالإنسان والبنيان; ففي الدين الإسلامي لا بد أن يكون التفكير البيئي أحد الأسس التي توجه الاختيار الفقهي لتبني الآراء الأكثر اعتبارا لقضايا البيئة ليتم الإفتاء بها ونشرها”. ولفت مفتي الجمهورية إلى أن الفكر الإسلامي قد امتلك مادة غاية في الثراء والتنوع بخصوص قضايا البيئة تحديدا، ويمكن القول بأن الفكر الإسلامي قد كون نظرية متكاملة حول العلاقة بين الإنسان وما يحركه من نوازع شخصية وبين الموارد الطبيعية المتاحة، واشتملت تلك النظرية على منهج متكامل ومحددات واضحة تحكم تلك العلاقة، ليس فقط تلك المحددات، وإنما كل ما يتعلق بالحق المتعلق بالحفاظ على البيئة، ولا نبالغ إن قلنا إن قضية المحافظة على البيئة تصدرت أولويات التشريع، وشكلت أحد المبادئ الأساسية في التشريع الإسلامي، وأما على نطاق الحفاظ على الأوقاف الإسلامية وتنميتها فأوضح مفتي الجمهورية أنه يجب أن يكون للتفكير البيئي مكانه في هذا السياق بتطوير طرق ووسائل وآليات تفعيل التفكير البيئي. وعلى نطاق الدعوة، أكد مفتي الجمهورية أنه لا بد للخطاب التوعوي والديني أن يأخذ موقعه من التحركات العالمية لمواجهة المشكلات البيئية والتغيرات المناخية وأن يتخلص من المكبلات التي تصنع تفرقة بين تكرارية ذكر النصوص الدينية ودلالتها الروحية وبين الممارسات التي يضطر إليها الشخص كل يوم; ولا سيما أن كل حركة للإنسان مرتبطة ببيئته، ولا ينفك عن التأثير والتأثر بها في كل لحظة من لحظات حياته.
ولتحقيق هذا الهدف، قال مفتي الجمهورية: “إنه لا بد أولا من الوقوف على تلك المكبلات للانتقال بالخطاب من مجرد آلة وعظية لا ترتقي لحل المشكلات إلى آلة شاملة تقوم على تأطير الوعي البيئي خصوصا، وتجمع بشكل فعال بين العقلانية والروحية في آن واحد”، مضيفا: أنه من أبرز الإشكالات في هذا الصدد ضمان أن يحقق الخطاب مقصوده باستخدام اللغة المناسبة لموضوعات البيئة وقضاياها المعاصرة، وعدم الاعتماد على لغة وعظية روحية بعيدة عن لغة الواقع ومعطياته الثابتة، كما يجب أن يكون الخطاب البيئي مائلا للغة المنطق، مستعملا لمنظومة الأرقام والحقائق العلمية التي يمكن من خلالها الانطلاق للتوعية بمدى خطوة الوضع الراهن ومن ثم ربطه بالمقاصد الشرعية، وهنا يمكن تنشيط البواعث الروحية والدوافع الأخلاقية لدى المتلقي للاستجابة إلى الطرح الذي يقدمه الخطاب كاملا، والعمل على تنفيذه بشكل أكثر جدية على أرض الواقع. وأكد مفتي الجمهورية أنه يجب على الخطاب الديني البيئي أن يصرف اهتمامه لمعالجة بعض القضايا التي ربما فهمت خطأ، أو كانت منطلقا للفهم الخاطئ، والتراخي والاستخفاف بقضايا البيئة، وعلى رأس تلك القضايا، قضية التسخير وكون الكون كله مسخرا لخدمة الإنسان وتحقيق رغباته; فإن المبالغة في ذلك تفضي إلى التغول الواضح للإنسان على الموارد الطبيعية وسوء استخدامها وعدم الاعتناء الكافي بما يجب عليه من واجبات والحدود الفاصلة بين الاستمتاع بذلك التسخير وإيقاع الضرر من الاستخدام الخاطئ للموارد. وقال مفتي الجمهورية إن من إشكاليات الخطاب البيئي: أنه قد اتخذ قوالب نمطية كانت في أغلبها وعظية تأصيلية، انطلقت من النصوص الشرعية التي شكلت مبادئ النظرية البيئية في الفكر الإسلامي وانتهت ببعض المواعظ من ضرورة الحفاظ على البيئة عملا بتلك النصوص، ولا شك أن ذلك الخطاب يحقق دوره في التأصيل الشرعي لقضايا البيئة والحفاظ عليها; إلا أن الإغراق في تلك النمطيات الخطابية يجعلها مكررة إلى حد كبير، ولا يضع الإنسان أمام مسئوليته الحقيقة لأنه لا يعرض عليه الإشكال الحقيقي والأبعاد الواقعية للمشكلة، لذا فيجب أن يراعي الخطاب الديني ابتداء تصوير القضية وفق معطيات علمية حقيقية من جهة، ومن جهة أخرى تحقيق المرونة اللازمة بمقتضى اختلاف المنابر التوعوية والفئات المستهدفة. وأضاف أن التخلص من تلك الإشكاليات ينقل الوعظ البيئي إلى تفكير بيئي، وهذا من وجهة نظرنا يحقق الاستدامة البيئية من جهة، والتوافق والتناغم بين العمل الفردي وبين السياسات البيئية المحلية والإقليمية والدولية. واختتم مفتي الجمهورية كلمته بالتأكيد على أن تحقيق الاستدامة البيئية عملl كبير يحتاج إلى تضافر الجهود على كافة المستويات، ولا يمكن الاكتفاء بالوعظ البيئي المجرد عن التفكير البيئي، وليس أقل من الترويج والربط بين الأهداف البيئية والأهداف الاجتماعية، وبيان حجم التداعيات البيئية وتغير المناخ ونحوه على مشكلات البطالة وتدفق العمالة ومعدلات الدخول لدى الأفراد والدخل القومي من جهة أخرى، والربط الوثيق بين السياسات الوطنية والإقليمية والدولية وبين العمل الفردي والمجتمعي، فكل ذلك يساعد الحكومات والمؤسسات على وضع برامج وخطط الاستدامة البيئية، ويكون للخطاب أثره في تلك السياسات الإصلاحية التي يحتاج إليها العالم اليوم أكثر من أي وقت مضى. واستطرد قائلا: “إن قضية الوعي البيئي يجب أن تأخذ موقعها المناسب كأحد التحديات التوعوية التي تتصدى لها المؤسسات الدينية والاجتماعية والتربوية، ويجب على سائر المؤسسات أن تتأسى بهذا المنتدى المبارك الذي يؤدي واجب وقته في نشر الوعي البيئي لإعمار الأرض وخدمة البشرية بالعلم والعمل”.