تقارير

شيخ الطريقة الأكبرية يغوص في الشيخ الأكبر والنور الأبهر الإمام محي الدين بن العربي

إعداد وعرض / محمد مهران

 مما لاشك فيه أن الشيخ محي الدين بن العربي أثار الجدل مابين أقرانه ومن بعده ولكن لابد من وقفه..

 عندما تحدثت مع الشيخ “أيمن حمدي الأكبري” قال لي كما قلت ولكن هذا من لم يعرف يقرأ كتب سيدي محي الدين بن العربي الأندلسي، الذي قال في بداية فتوحاته المكيه “من قال بالحلول فدينه معلول” .

ومن هنا قامت عزيمة شيخ الطريقة الأكبرية بمصر بمشروع ضخم يناقش تراث الشيخ محي الدين بن عربي، برعاية مفتي الديار السابق وشيخ الطريقة الصديقية الشاذلية الدكتور علي جمعه وقد تناول المشروع ما يلي…

  • يقول الدكتور علي جمعه عضو هيئة كبار العلماء :

بسم الله الرحمن الرحيم

الحمد لله رب العالمين والصلاة والسلام على سيدنا محمد أشرف الخلق أجمعين وعلى آله وصحبه ومن والاه إلى يوم الدين .

أما بعد، فإن التصوف الإسلامي علم تشكلت معالمه ووضحت مناهجه ومبناه على الإحسان المذكور في حديث جبريل عليه السلام ” أن تعبد الله كأنك تراه فإن لم تكن تراه فإنه يراك”.

وهو علم يكشف عن حقيقة التجربة الصوفية التي سلكها العابدون والزاهدون في رحلة تزكية النفس البشرية وترقيتها في سبيل الطهر والنقاء بالتخلية من القبائح والتحلية بالفضائل حتى يذوقوا حلاوة العرفان والإشراق والتجلي لأنوار الحق سبحانه وتعالى عليهم .

ولقد رسم رجال التصوف طريقا في السلوك إلى ملك الملوك وبينوا فيها أنواره ومقاماته وأحواله وحذروا السالكين من عقباته ومزالقه التي تظهر فيها النفس حظها ويوسوس فيها الشيطان جاهدا أن يرد السالك عن غايته وهي  الحق.

والتصوف الإسلامي علم إسلامي صرف؛ في نشأته وتطوره وفلسفته أيضا، يكشف ذلك ويبرهن عليه تتبع مراحل نموه وتطوره، فقد بأ نواة من أقوال الزهاد والعباد والمنقطعين عن الدنيا وزخرفها، ثم بدات تتجمع خيوط التجربة الإنسانية الصوفية وتتلاقى أقوال العارفين وفكرهم وتأملاتهم، وبدأت تتضح لهذا العلم مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة ورموزه وموضوعاته، إنه علم تأسس من مجموع التجربة الصوفية للمتقين والصالحين.

والتصوف نقل جيلا بعد جيلا بسند جملي اتصل فيه أصحاب تلك التجربة الصوفية مع من سبقهم جملة عن جملة حتى اتصل سنده إلى سيدنا رسول الله صلى الله عليه وسلم منبع العلوم والأفهام والرحمات والحكم.

وقد بلغت علوم التصوف ذروتها وكمالها عند سيدي محي الدين ابن عربي الذي توفي في القرن السابع الهجري عام 638هـ ، فعنده وضحت معالم الطريق الصوفي وصارت كل مشاهده العرفانية مترجمة ومقيدة، وعنده امترجت علوم التصوف وفلسفته بالتجربة الروحية فكانتا قطعة واحدة، وهذه الخاصية هي التي ميزت التصوف الإسلامي عن غيره.

إن ابن عربي الحاتمي الطائي هو صاحب الخيال المبدع والرؤية العميقة للإنسان والكون والوجود والعدم والغيب والشهادة والملك والملكوت، وكانت فكرته ساطعة وعاطفته جياشة، إضافة إلى سعة علمه وتوقد ذهنه وقدرته على المحاجة والمناظرة، مما أكسب التصوف قوة ورسوخا في الحياة العلمية والحضارة الإسلامية، فصار جزءا لا يتجزء منها، ولقوة يقينه في التجربة الروحية وصدق تعبيره عنها غمض على كثير من الناس إدراك رموزه وجازاته واقتباساته وإحالاته، لأن الشيء إذا زاد سطوعه غبشت رؤيته إلا على من أنعم الله عليهم بالأدوات والملكات، ولذلك اتهمه كثير من الناس وطعنوا في دينه وصدقه وتوحيده، ولكنه لم يكن يبالي بذلك وكان يقول: مبنى هذا الطريق على التسليم والتصديق، ولا يبلغ إنسان درج الحقيقة حتى يشهد فيه ألف صديق أنه زنديق.

قال عنه الفيروز آبادي صاحب القاموس المحيط: كان سيدي محي الدين شيخ الطريقة حالا وعلما وإمام التحقيق حقيقة ورسما ومحي رسول المعارف فعلا واسما.

إذا تغلغل فكر المرء في طرف                       من بحره غرقت فيه خواطره

فهو عباب لا تكدره الدلاء وسحاب تتقاطر عنه الأنواء.

ويذكر أنه وقف على إجازة كتبها الشيخ الأكبر للملك المظفر الأيوبي صاحب دمشق، جاء في أولها وأجزت له أن يروي عني مصنفاتي ومن جملتها كذا وكذا . وعد منها نيفا وخمسمائة كتاب.

قوم محاسن جودهم مبثوثة               يبلى الزمان وذكرها يتجدد

وكان آخر ما كتب سيدي محي الدين التفسير الكبير في تسعة وتسعين مجلدا، قبضه الله عند قوله تعالى: (وعلمناه من لدنا علما) في تفسير سورة الكهف .

ومن واظب على مطالعة كتبه والنظر فيها ولاتأمل في معانيها انشرح صدره لحل المشكلات وكشف المعضلات.

وطريقة الشيخ محي الدين ابن عربي ظلت باقية ومستمرة إلى القرن الرابع عشر الهجري، يوضح ذلك الكشمخانوي في كتابه جامع الأصول في الأولياء وأنواعهم، فإنه حينما عدد الطرق التي ما تزال قائمة ومستمرة ذكر فيها الطريقة الأكبرية المنسوبة إلى الشيخ الأكبر ، وقال : إن مبنى هذه الطريقة على أربع خصال : الصمت . العزلة. الجوع . السهر .

وهو الأمر الذي يؤكده محي الدين في جميع رسائله أن الرياضة بهذه الخصال أساس طريقته.

وحينما فاتحني الشيخ أيمن حمدي مدير مؤسسة ابن عربي للبحوث والنشر في عزمه على خدمة تراث الشيخ الأكبر ولمست فيه همة عالية في ذلك ، وهو صاحب سند متصل بسيدي محي الدين ويرغب في خدمة الطريقة الأكبرية ونشرها، وهو مُجاز فيها من مسند العراق الشيخ أكرم عبد الوهاب الموصلي، ومن الشيخ محمد إبراهيم عبد الباعث في مصر، وقد أجزته بها أيضا.

وقد التقت رغبته في خدمة تراث الشيخ بتتبع مخطوطاته وفهرستها وتحقيق ما لم يطبع منها ونشره دار الوابل الصيب للنشر والتوزيع، فبارك الله مسعاهم وأعانهم على تحقيق المراد على أكمل صورة تظهر حقيقة هذا الولي سلطان العارفين.

ونقدم للقارئ الكريم قطعة فنية فريدة في تراثنا الإسلامي والحضاري، إنها مجموعة رسائل الإمام صدر الدين القونوي وأجوبة نصير الدين الطوسي عليها، وهي عبارة عن “الرسالة المفصحة عن منتهى الأفكار وسبب اختلاف الأمم والموضحة عن الاهتداء إلى الطريق الأشرف الأتم” والثانية “أجوبة نصير الدين الطوسي عليها” والثالثة عبارة عن تعليق صدر الدين القونوي على ذلك “الرسالة الهادية”.

فنقول: إن الذي يكشف عن عمق الأثر الذي تركه الشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي هو معرفة تلامذته ومريديه الذين أخذوا عنه فكره وفلسفته وورثوا تجربته الروحية وعلى رأس هؤلاء صدر الدين القونوي المتوفى 672هـ ، وهو ربيب الشيخ الأكبر الذي حل محل والده بعد أن تزوج أمه التي ترملت وعمره ست سنوات.

والرسائل التي بين أيدينا نموذج فريد في تاريخ الحضارة الإسلامية، تكشف عن آدب المحاورة والتعلم، وتلاقح الأفكار بين قمتين من قمم العلم في القرن السابع الهجري هما الفيلسوف نصير الدين الطوسي الذي شرح الإشارات والتنبيهات لابن سينا، والآخر هو صدر الدين القونوي الصوفي الكبير.

وفي الرسالة الأولى يشرح فيها القونوي بعض المسائل التي اعتاص عليه فهمها قديما لدقتها ثم كشف الله له سرها بتوجهه إليه وافتقاره إلى علمه، وحل ألغازا حار فيها العلماء واختلفوا، ولكنه أحب أن يتشارك العلم والمعرفة مع نصير الدين لعدم اقتناع همته العالية بما جعل له من الشهود والذوق والعرفان، فأراد أن يزيده بالطمأنينة البرهانية والدلائل العقلية؛ ليزداد وضوح فهمهه ويتحقق له كمال رفع الاشتباه.

وهي مسائل في غاية العمق عن الوجود وماهيته وصدور المحدث من القديم والكثرة من الواحد، وحقيقة النفس وماهيتها، والنسب بين الموجودات غير المتناهية.

وحينما أتاه جواب نصير الدين بوجهة النظر الفلسفية والبرهانية، وجد أن العلم يدور في فلك واحد، فرد عليه بالرسالة الهادية التي أعاد فيها صياغة جواب نصير الدين في القالب العرفاني حسب مفاهيم أهل الحكمة، وحسب مصطلحاتهم التي ألفوها ، وبين أن الحق واحد وإن اختلفت طرق التعبير عنه، وما يراه قصيري النظر اختلاف بين العلماء لاحتمال اللفظ المشترك لأكثر من معنى؛ هو في حقيقته أمر واحد.

فانظر إلى هؤلاء التلاميذ الكبار الذين ورثوا علم الشيخ الأكبر كيف تحلوا بالصبر والأناة، وكيف تواضعوا وخفضوا الجناح لبعضهم وعمقت أفكارهم، وكيف أنهم وقفوا عند حدود الحكمة وسعوا وراءها في الآفاق، وذلك لما وجدوا لها من اللذة والجمال، ولما حصل لهم بها من الإشراق، فالمعرفة هي بوابة الإشراق.

وقد أجاد فريق العمل باختيار تلك الرسائل للتحقيق وإبراز أهميتها وعرضها في حلة قشيبة للجمهور، الذي يحتاج إلى الإضاءة على النقاط البديعة في تراثنا الحضاري والفكري والفلسفي، وقد اعتمد التحقيق على أكثر من نسخة دققت الفروق بينها، وظهرت التعليقات والتوثيقات جلية في هوامش النص مما سهل على القارئ فهمه وقراءة.

فالله أسأل أن ينفع بها الأمة، وأن تكون نبراسا لعلماء عصرنا أن يتشاركوا ويتعاونوا وتتلاقح أفكارهم ولا يحصل بينهم الضغينة أو التشاحن.

  • تراث الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي

مشروعٌ يعتني بجَمعِ مؤلفات الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي مِن مراكزِ المخطوطات بالعالَم، وتوثيقِها، ونشرِها في طبعاتٍ مُحَقَّقَةٍ تحقيقًا عِلْمِيًّا، وذلكَ بالتَّعاوِنِ بَينَ “مؤسسة ابن العربي للبحوث والنشر” و “دار الوابِل الصيِّبِ للإنتاجِ والتوزيعِ والنشر”.

ويقوم هذا المشروع بجَهدِ جماعَةٍ مِن الباحِثين في مجالات العلومِ الشرعيةِ والتَصوِّف واللغة، وَمِنهم:

أكرَم رضا، حازم الشطبي، عبد الرحمن مصطفى، عبد العزيز معروف، علي سامي، مُحَمد بشير.

فاطمة القاسمي: مدير المشروع.

أيمن حمدي: مدير مؤسسة ابن العربي، والمشرف العام على المشروع.

د. هشام حنفي: مدير دار الوابل الصيب.

وذلِك بتوجيهات فضيلة الإمام أ. د/ علي جُمعة (عضو هيئة كبار العلماءِ بالأزهر الشريف) وشيخ الطريقة الصِّدِّيقية الشاذلية العلية.

تُعَدُّ المُضَاهاةُ مِنْ خُصُوصِيَّاتِ الطَّريقةِ الأكبَريَّة، وإن كانت تَلُزَم كلّ سالكٍ على طَريقِ الحَقِّ تعالى،  وتتَطَلَّبُ مِنَ السَّالِكِ مَعْرِفَةَ العاَلَمِ وَمَعْرِفةَ نفْسِهِ، ولِكُلٍّ مِنْهُما مَبنى ومَعْنى، ومِنْ هُنا رأينا أنْ نُقَدِّمَ للقارئ المُتَشَوِّقِ إلى تلكَ المَعْرِفَةِ هَذهِ المؤلفاتِ في كِتابٍ واحِدٍ يَجْمَعُهَا، حَيْثُ يتناوَلُ الشيخُ الأكبرُ مَوضوعَ هذا المَجْمُوعِ مِن عِدَّةٍ أوْجُهٍ، فيتناولُ في الرسالةِ الموقِظَةِ الإنسانَ وما أودَعَ فيهِ الحَقُّ تَعَالى مِن القُوى الحِسِّيَّةِ والأسْرَارِ الرُّوحَانيَّةِ، وَكيفَ أنَّ حَيَاتِها وغِذائها مِن عَملِ الأعضاءِ وبحَسَبِهِ. أمَّا كِتابُ تَلْقِيحً الأذْهَانِ، فيتناولُ مفهومَ الإرادَة عنْدَ أهْلِ هذهِ الطريقةِ المُثلَى، وكيفيَّةَ رِياضَةِ الأبْدَانِ والقُلوبِ، ليَعرُجَ بالسَّالكِ إلى الموازَنةِ القَائِمَةِ بَيْنَ قُوى الإنْسَانِ والأرْوَاحِ العُلْويَّةِ، ثُمَّ يَنْتَقِلُ بِنا الشيخُ الأكْبرُ رَضِي الله عنه إلى وجْهٍ آخَرَ مِنْ أوجُهِ الموازَنَةِ، في كِتابٍ خَصَصَ لَهُ اسْمَ (الموازَنة)،  ويُبَيِّنُ ابن العربي في هذا الكِتابِ أنَّ للناظِرِ في هَذا العِلمِ نَظَران: (نَظَرٌ بِواسِطَةِ الأمْثَالِ المَضْرُوبَةِ للنُّظَّارِ، ونَظَرٌ فِي الحِكْمَةِ الإِلَهِيَّةِ الَّتِي هِيَ يَنْبُوعُ الأَنْوَارِ،

وَكِلاهُمَا نَظَرَانِ لِلْعَقْلِ؛ وَمَنْ أمْكَنَهُ العُبُورُ مِنَ الأمْثَالِ  إلَى مَمْثُوَلَاتِهَا فقَدْ أُوتِيَ الحكْمَةَ؛ وَمَنِ اطَّلَعَ بالعَيْنِ العَقْلِيَّةِ علَى حَقَائِقِ الأمُورِ صَارَ سِرَاجًا يَقْتَدِي بنورِهِ  أفَاضِلُ الأمَّةِ؛ وَمَنْ جمَعَ بيْنَ الأمْرَيْنِ فقَدِ اسْتَظْهَرَ غَايَةِ الاسْتِظْهَارِ)، وسوفَ يَجدُ قارئُ هذا الكِتَابَ أنَّ تفاصيلَ تِلكَ الموازَنةِ سوفَ تَفتَحُ أمامَهُ أبوابَ التَّعَرُّفِ على معاني الكَمَالِ الإنْسَاني، وأسرارَ الخِلافةِ مِن خلالِ معْرفةِ المضاهاةِ بين الإنسانِ مِن حيثُ مَبناهُ ومَعْناهُ مِنْ وَجهٍ، والعالَمُ بأرضةِ وسماواتِهِ مِن وَجْهٍ آخَر. ثُمَّ يكونُ مِسكُ الخِتامِ في هذا المَجْمُوعِ كِتابُ الفتوحاتِ المَدَنيةٍ، والذي انتقل فيه الشيخُ الأكبرُ رضي اللهُ عنه مِن الإشارةِ إلى جَميلِ ما أودَعَ الله تعالى في الإنسانينِ الكبيرِ والصَّغيرِ، إلى الكلامِ عن أنوارِ ساكِنِ المَدينَةِ صلواتُ اللهِ عليهِ وما خَصَّهُ بِهِ الحَقُّ تعالى مِنَ المَحَامِدِ في القُرْآنِ الكريمِ ، مُتَمِّمًا الكتابِ بِلَطَائفِ النَّصَائحِ التي هِيَ مِنْ أسْبَابِ حُضُورِ القُلُوب.

* يُعَدُّ الحوار بين العلماء من الوسائل التعليمية الفائقة، إذ يتناولون في رسائلهم مسائل دقيقة يتعثر فهمها بفكرٍ أُحاديٍّ، ولذا جعلوا مِن الحوار في تلك المسائل سببًا للدوران حولها ووسيلة في كشف حقائقها أمام تلاميذهم، وقد جمع هذا الكتاب الرسائل المتبادلة بين عَلَمَيْن مِن أعلام الثقافة الإسلامية، أما الأول فهو:

* الشيخ الكبير صدر الدين القونوي (607 – 672هـ)، ربيبُ الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي الحاتمي الأندلسي وتلميذه الأشهر، وهو أحد أقطاب التصوف الإسلامي عامةً، وأحد أعمدة المدرسة الأكبرية أيضًا.

* وأمَّا الأخَر فهو:

* نصير الدين الطوسي (672هـ)، أحد أساطين الفلسفة وشارح مؤلفات ابن سينا وغيره

* ويحتوي الكتاب على “الرسالة المفصحة عن منتهى الأفكار وسبب اختلاف الأمم، والموضحة سِر الاهتداء إلى الطريق الأشرف الأَمَم”، والتي أرسلها الشيخ الكبير صدر الدين القونوي إلى الفيلسوف الحكيم “نصير الدين الطوسي” بغرض الإجابة على ما حوت من الأسئلة.

* وتبدأ الرسالة ببيان أقسام الناس من حيث القسمةِ العقليةِ، وأنهم على ثلاثِ طبقات: طبقةٌ عُليا؛ هُم أرباب الهِممِ السامية الراقية لاكتساب المعالي والكمالات، الطالبة لمعرفة الحقائق العَليَّة وسيَّما معرفة الحق تعالى. وطبقةٌ وسطى، وهُم أصحاب الفكر النظري، والنظر العقلي، وطبقةٌ سُفلى؛ هُم عوام الناس ممن انكبوا على الأمور الحياتية.

* ولمَّا كان أهل الطبقة العُليا هم المقصودين في هذه الرسالة، وضَع الشيخُ الكبير صدر الدين القونوي بعض الأسئلة التي توقف أمامها في شبابه، وقد أرجع هذا إما إلى قصور إدراكه، أو لتعارُض أقاويل أهل البحث والتحصيل فيها، مع عدم براءة أقوالهم من شين الشكوك والاحتمالات، ولمَّا كان الله تعالى قد اجتذبه بعنايته وعرَّفه ما شاء من العلوم والمعارف، فعَلِم أجوبة تلك المسائل وغيرها، بعد التحقق بمعرفته تعالى؛ بواسطة توجهه إلى الحق بالتعرية والافتقار؛ على نحو ما استفاد من شيوخه أولي الأيدي والأبصار.

* فكان تحصيله العلوم بطريق الكشف والذوق، ولكنه أرسل هذه الأسئلة إلى مُعاصره الفيلسوف نصير الدين الطوسي؛ ليجمع بين الأمرين في معرفة تلك المسائل؛ ويعني بالأمرين: البرهان والعرفان. ويمكن إجمال هذه الأسئلة، في النقاط الآتية:

* الوجود والماهية، مسألة الواحد لا يصدر عنه إلا واحد. حقيقة النفس الإنسانية، الأجسام  وتناهيها، وما الموجب لتناهيها، وهل يمكن ألا تتناهى؟ وما حالها إذا انقطع تعلقها بالنفس المدبرة لها.حقيقة الفيض الصادر من الحق.

* النِّسُب بين الموجودات،

* وقد أجاب الطوسي على هذه الأسئلة بقدرة منطقية فائقة، موضحًا أنه يتفق مع الشيخ الكبير صدر الدين القونوي  في أن  معرفة الحق تعالى في أجلى مراتبها إنما هي حاصلة بطريق الذوق الصحيح والكشف الصريح،

* فلمَّا وصلتْ تلك الأجوبة إلى الشيخ الكبير صدر الدين القونوي، كتب “الرسالة الهادية”، وقد تعقَّب فيها ما ذكره الطوسي بأسلوب يجمع بين التحليل الدقيق للمعاني والأدلة وبين العرفان.

* وقد رأينا أن تكون خاتمة تلك الرسائل رسالة الإمام صدر الدين القونوي المسماة “نفثة المصدور”، وهي مناجاة مِن أنفاس التوحيد، فيها فرائد التجريد، ودُرر التنزيه والتمجيد والتحميد، نسأل الله أن ينتفع بها من شاء من خلقه وأن يجزي مشايخنا عنّا خير ما هو أهله، وأن يرضى عن الشيخ الكبير سيدي صدر الدين القونوي وينفعنا بعلمه كما انتفع به الأجلاء ممن سبقنا فهو -رضي الله عنه- علمٌ من أعلام الدين وجبلٌ مِن جبال اليقين.

فإنَّ كتابَ الوصايا مِنْ أهمِّ مؤلَّفاتِ الشيخ الأكبر محيي الدين ابن العربي، حتى أنَّهُ جَعَلهُ خاتِمةً لموسوعتِهِ العِرْفَانيةِ “الفتوحات المكية”، وقَدْ ضَمَّنَهُ الكثيرَ مِن النَّصَائحِ الشَّرْعيَّةِ والحِكَمِيَّةِ التي تلزَم كُل مُسْلِمٍ، حتى باتَ التقديمُ لَهُ أمرًا يحتاجُ إلى بَحْثٍ جادٍ يسعى إلى الوقوفِ على موضوعاتِهِ، غيرَ أنَّ الشيخَ الأكبرَ قدْ قدَّمَ لَهُ بقَصِيدَةٍ يجْدُرُ بِنَا تأمُّل بَعْضِ مَعَانِيهَا والتي يُشيرُ بها إلى خصوصيَّةٍ مِن خصائص السلوكِ في المَدْرَسَةِ الأكبرية، حيث يقولُ:

  فَهَدْيُ أَحْمَدَ عَيْنُ الدِّينِ أَجْمَعُهُ

 وَمِلَّةُ الْمُصْطَفَى مِنْ أَنْوَرِ الْمِلَلِ

لَمْ تَطْمُسِ الْعَيْنَ بَلْ أَعْطَتْهُ قُوَّتَهَا

 حَتَّى يُقِيمَ الَّذِي فِيهِ مِنَ الْمَيْلِ

فأصلُ السلوكِ عند الشيخُ الأكبرِ اتِّباعُ المُصْطَفَى صَلَّى اللهُ عَلَيهِ وسَلَّمَ، فَهُوَ المُمِدُّ للهمَمِ، والمُقَوِّمُ للعِوَجِ، ولذا يُقدِّمُ النصيحةَ للسَالك بِقَوْلِهِ:

فَخُذْ بِسِرِّكَ عَنْهُ مِنْ مَرَاكِزِهِ

 عُلْوَاً إِلَى الْقَمَرِ الْأَعْلَى إِلَى زُحَلِ

أي فخُذ بحضور قَلْبِك عَنْ رسولِ اللهِ صلى الله عليهِ وَسَلَّم، وقولُه (مِنْ مَرَاكِزِهِ) إي مِن حيثُ اتصالِكَ به حال الحُضورِ، وهو معنى في قوله تعالى (واعلموا أنَّ فيكم رسول الله) فيأخُذكَ صلى اللهُ عليه وسلم في رِحْلَةِ العروجِ الروحي (إِلَى الْقَمَرِ الْأَعْلَى   إِلَى زُحَلِ) وفي هذا المعراجِ الذي هُوَ كما أشارَ ابنُ العَربيِّ في غيرِ موضِعٍ؛ معراجُ أرواحٍ لا أشباحٍ، حيث ترقى روحُ السالكِ إلى سماوات المعاني لا سماوات المغاني، ثُمَّ منها (إِلَى الثَّوَابِتِ)؛ يعني إلى الكواكِبِ الثابِتَةِ التي هي النجوم النيراتِ في فَلكِ المَنَازلِ، مُنَبِّهًا السالكِ إلى عدَم الالتفاتِ بقولِه (لَا تَنْزِلْ بِسَاحَتِهَا، وَانْهَضْ إِلَى الدَّرَجِ الْعَالِي مِنَ  الْحَمَلِ) أي إلى فَلَكِ البُروجِ (وَمِنْهُ لِلْقَدَمِ الْكُرْسِيِّ)؛ إشارة إلى مَحَلِّ تنَزُّلِ الأمْرِ والنَّهيِ (ثُمَّ إلى  العَرْشِ الْمُحِيطِ) بالسَّمَاواتِ والأرضِ،  إِلَى عالَمِ (الْأَشْكَالِ وَالْمُثُلِ) وهُوَ العَالمُ الذي خَلَقَ اللهُ تعَالى فيه لِكُلِّ شَخصٍ مثالا فإذا أذنَبَ شَخْصٌ تغَيَّرتْ هيأتُهُ عَن حُسنها، فَسَتَرَهُ اللهُ بستارةٍ فتعْرِفُ الأرواحُ والملائكةُ أنَّ وراءَ هذهِ السِّتَارةِ شَخْصٌ أذْنَب؛ ولا يَعْرِفونَ مَن هُوَ، فإذا تابَ عادتْ صورَتُهُ إلى حُسْنِها الروحي، فرَفعُ اللهُ السِتارةَ عنهُ، وقد جاءَ في السُّنَّةِ المُشَرَّفَةِ أنَّ تسبيحَ هذا العاَلَم “سُبْحَانَ مَنْ أظهَرَ الجَميلَ وسَترَ القبيحَ” والدُّعاءُ بكامِلهِ نَزَل بِهِ جبريلُ عليه السلامُ إلى النبيِّ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ.

ويستمرُّ الشيخُ الأكبرُ في سَرْدِ الترَقِيَاتِ التي ينبغي للسالكِ اللبيبِ أنْ يحوزها متى تَعَلَّقَ قَلْبُهُ بالأخْذِ عَن رسولِ اللهِ صلى اللهُ عليهِ وسَلَّمَ، حتى تَنكَشفَ لهُ الحقائقِ عِندَ كمالِ الجلاءِ والاستجلاءِ، حيثُ الإنسانُ عِبارة عَنْ العَيْنِ المَقْصُودَةِ مِنَ العَالَمِ، ومجلى ظهورِ الأسماءِ والصفاتِ مِن حيث كَمَالُهُ المُسْتَجِنُّ فيه، والذي بِهِ تكونُ الخِلافَةُ.

(أيمن حمدي الأكبري)

اظهر المزيد

مقالات ذات صلة

زر الذهاب إلى الأعلى